المواضيع الأخيرة
أفضل 10 فاتحي مواضيع
خادم الصالحين | ||||
السراج المنير | ||||
عقبة | ||||
نور الشام | ||||
أمان الروح | ||||
محمد العبد الخميس | ||||
admin | ||||
الحر | ||||
طوق الياسمين | ||||
خالد |
المواضيع الأكثر شعبية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 42 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 42 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 290 بتاريخ الخميس أكتوبر 03, 2024 9:09 pm
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
خادم الصالحين | ||||
السراج المنير | ||||
عقبة | ||||
نور الشام | ||||
أمان الروح | ||||
طوق الياسمين | ||||
الحر | ||||
محمد العبد الخميس | ||||
admin | ||||
خالد |
أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم |
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 510 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو الياس0 فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 1464 مساهمة في هذا المنتدى في 1369 موضوع
دخول
مغزى قصة الإفك
صفحة 1 من اصل 1
مغزى قصة الإفك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وقفات تحليلية متأنية لحديث الإفك:
الوقفة الأولى: العبرة في القصة عبرها ودروسها لا أحداثها وتفاصيلها:
أيها الإخوة المؤمنون، لازلنا في سورة النور، ومع الدرس السابع من هذه السورة، ولابد من وقفة أخرى عند " حديث الإفك "، ففي هذا الحديث كما وصفه الله سبحانه وتعالى خير كثير، لأن أية قصة في القرآن الكريم كما قلت لكم في الدرس الماضي ليست مقصودة لذاتها، إنما المقصود أن يستنبط منها قواعد في الآداب العامة، وفي المعاملات، وهذا حديث الإفك خير، كما قال الله سبحانه وتعالى:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
(سورة النور: الآية 11)
الوقفة الثانية: كان من الممكن أن لا يقع الإفك ولكن …:
لو وقفنا وقفة عند هذا الحديث نجد أنه كان بأمر الله، فكان من الممكن ألا تكون القرعة من نصيب السيدة عائشة مع رسول الله في هذه الغزوة، وكان من الممكن ألا يكون لها حاجة إلى قضاء الحاجة، لو لم تذهب لقضاء الحاجة لما كانت كل هذه القصة، وكان من الممكن ألا ينقطع عقدها، وهي تقضي حاجتها، وكان من الممكن أن ينقطع عقدها، ولا تنتبه إليه، وكان من الممكن أن ينقطع عقدها، وتنتبه إليه، ولا تعود من أجله، وكان من الممكن إذا عادت أن ينتظرها النبي عليه الصلاة والسلام، وكان من الممكن إذا حُمِلَ الهودج أن يشعر من حَمَلَهُ أنه فارغ، لو ذهبت في هذا الطريق إلى الممكنات لوجدت أن هذا الحديث وقع بأمر الله، و نستنبط من هذا التحليل أن كل شيء وقع أراده الله، لذلك فلا تأسَ على ما فات، ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فكلمة لو تفتح عمل الشيطان، وقد أشار ربنا عز وجل في قصص كثيرة، وفي آيات كثيرة إلى ذلك:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾
(سورة يوسف: الآية 21)
الوقفة الثالثة: إظهار كل إنسان على حقيقته:
فهذا الحديث وقع بهذا الشكل، لو تابعنا هذا التحليل، كان من الممكن ألا يأتي صفوان، وكان من الممكن أن يتفقدها النبي عليه الصلاة والسلام، فيأمر أصحابه أن يعودوا إلى الموقع ليأخذوها، إذاً هذا ترتيب إلهي، فيه حكمة ما بعدها حكمة، من أجل أن يظهر كل إنسان على حقيقته.
الوقفة الرابعة: بشرية النبي عليه الصلاة والسلام:
ربنا سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، ويأمره أن يبلغنا أنه بشر، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ:
(( كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ فَقَالَ: آنْتِ هِيَهْ، لَقَدْ كَبِرْتِ، لا كَبِرَ سِنُّكِ، فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالآنَ لا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، أَوْ قَالَتْ: قَرْنِي، فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
[أخرجه مسلم]
لئلا يعبده الناس من دون الله، لئلا يقال: إنه ابن الله، هو رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، فربنا سبحانه وتعالى في هذا الحديث أراد أن يعلمنا أنه بشر، كما أراد أن نرى بأعيننا أنه بشر، نبي كريم عنده زوجة طاهرة عفيفة مؤمنة قانتة لله عز وجل، والناس يتحدثون أنها زنت، ماذا يفعل ؟ كيف له أن ينفي هذا ؟ ليس في إمكانه أن يثبته، ولا في إمكانه أن ينفيه، ولقد تأخر الوحي، لو أن الوحي جاء بعد يوم أو يومين لما كانت ثمة مشكلة، لكن الوحي تأخر شهرا بكامله، من أجل أن يظهر كل إنسان على حقيقته، فمن كان في قلبه مرض، من كان يبطن العداوة، من كان يتمنى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ظهر على حقيقته جليا، ومن كان مؤمنا يحسن الظن بنبيه، وبأهل بيته قاس الأمور على نفسه، فقال: يا أم أيوب لو أنك مكان عائشة أتفعلين ما يقال عنها ؟ قالت: لا، والله لا أخون رسول الله، وقال: أما أنا فوالله لا أخون النبي في أهله، وصفوان أفضل مني، وعائشة أفضل منك، هؤلاء المؤمنون الصادقون، هؤلاء الذين يحبون نبيهم، ويحسنون الظن به، هؤلاء الذين ينزهون نبيهم، وأهل بيته عن كل دنس، هؤلاء قاسوا الأمور على أنفسهم، وأحسنوا الظن، فكأن هذا الحديث أبرز المخلصين الصادقين، وأبرز المنافقين والفاجرين، لذلك قال الله سبحانه وتعالى:
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
(سورة آل عمران: الآية 179)
لله أساليب كثيرة، فعل هذا يوم الخندق ؛ يوم أحدق الكفار والمشركون بالمدينة، ويوم خان اليهود عهدهم مع النبي على عادتهم، ويوم انكشف ظهر النبي عليه الصلاة والسلام، وأصبح الإسلام قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، قال تعالى:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) ﴾
(سورة الأحزاب:الآيات 11-12)
أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، وأما المؤمنون الصادقون فقد وصفهم الله عز وجل بقوله:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
(سورة الأحزاب: الآية 23)
الوقفة الرابعة: في زمان ومكان امتحان للمسلم: إِنَّا كُنَّا مُبْتَلِينَ:
إن موضوع الخندق كان امتحاناً دقيقاً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث الإفك امتحان آخر دقيق لهم، ونحن في كل زمان، وفي كل مكان لابد من امتحانات، سيسقط فيها من يسقط، وينجح فيها من ينجح، قد يكون هذا الامتحان كاشفا، وقد يكون دافعا، فهذه الامتحانات تتكرر، والتاريخ يعيد نفسه، وفي كل بيت هناك امتحان، قد يؤمن الرجل بالله عز وجل، ويتوب إليه، ويفعل الصالحات... يضيق رزقه، ويضيق، ويضيق، ماذا يفعل ؟ يعصي الله ؟ أيأكل مالا حراما ؟ إن هذا التضييق في الرزق امتحان من الله عز وجل، قد يعرض للإنسان موقف يخلو فيه بامرأة لا تحل له، ماذا يفعل ؟ أيغادر المكان ؟ أم يبقى ؟ امتحان، والله الذي لا إله إلا هو ما من مؤمن يقول: إني مؤمن إلا وهو معرض للامتحان عشرات، بل مئات المرات في اليوم، أو في الأسبوع، فقد يمتحن الإنسان بالمال ؛ بوفرته، وبفقده، يمتحن بالنساء بالحالتين، يمتحن بالقوة، يقوى فيطغى، أم ينصف ؟ يضعف فيزل، أم يصبر ؟ فربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّا كُنَّا مُبْتَلِينَ﴾
(سورة المؤمنون: الآية30)
ويقول:
﴿َ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
(سورة الملك: الآية 2)
فهذا الحديث:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
لأن المؤمنين ظهروا على حقيقتهم، برزوا كالنجوم المتألقة في السماء، والمنافقون ظهروا كالوحول تحت الأقدام، ظهرت نيتهم، وظهر خبثهم، وظهر انحرافهم، وظهر سوء ظنهم، وظهر فرحهم بأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فهذا الحديث كما قلنا حديث فيه خير كثير.
الوقفة الخامسة: لسان حال النبي عليه الصلاة والسلام: قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا
أشار العلماء إشارة دقيقة جدا، السيدة عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، وهو رسول الله، وسيد الخلق، وحبيب الحق حينما تحدث الناس عنها ما كان بإمكان النبي أن يبرئها، كأن الله عز وجل أراد أن يمتحنها، فلما نزلت براءتها بادرت إلى السجود لله عز وجل، وحمده، وحده، إذا كان الإنسان أحيانا يتعلق ببشرٍ مثله، وهذا الإنسان عبد، ربنا عز وجل يخاطبنا، يبلغنا، أو يبلغ النبي أن يبلغنا:
﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا﴾
(سورة الأعراف: الآية 188)
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ﴾
(سورة الأعراف: من الآية 188)
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنا نفعا ولا ضرا، فَلأَنْ لا يملك لنفسه من باب أولى، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام عبد لله، فحتى في حديث الإفك لم يملك النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الزوجة المخلصة العفيفة الطاهرة أن يبرئها حتى برأها الله عز وجل في قرآنه الكريم، وكانت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها تقول: كنت أظن أن يرى النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا تبرئني، فكنت أحقرَ من أن ينزّل فيّ قرآنًا، ولكن قرآنا يتلى إلى قوم القيامة نزل في تبرئة عائشة، فلماذا ؟.
الوقفة السادسة: أهداف المنافقين تتعدى الأشخاص:
قال بعض العلماء: إن المنافقين ما أرادوا في حديث الإفك أن ينالوا من السيدة عائشة بقدر ما أرادوا أن ينالوا من النبي عليه الصلاة والسلام، بل إنهم ما أرادوا أن ينالوا من النبي عليه الصلاة والسلام بقدر ما أرادوا أن ينالوا من هذه الدعوة الجديدة.
أحيانا حينما يتحدث الناس عن إنسان طاهر، عفيف، مخلص، صادق، حينما يلغطون بحديث يتعلق بحياته الشخصية، إنهم لم يتمكنوا أن يردوا دعوته، ولم يتمكنوا أن يقارعوه الحجة بالحجة، فعمدوا إلى ترويج قصص ملفقة عن حياته الخاصة، فلذلك لم يُرِدْ المنافقون، والذين أرجفوا في المدينة شخصَ السيدة عائشة، بل أرادوا شخص النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يريدوا شخص النبي بل أرادوا هذه الدعوة التي جاءت نوراً للناس، لذلك تولى الله سبحانه وتعالى بقرآنه الكريم تبرئة هذه السيدة العفيفة الطاهرة، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ ؟ فَقَالَ: أَبُوهَا، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَعَدَّ رِجَالًا ))
[أخرجه البخاري، ومسلم، الترمذي]
الوقفة السابعة: الحكمة من انقطاع الوحي في فترة الإفك:
حكمة أخرى من هذا الحديث كما نوهت بها قبل قليل هو أن انقطاع الوحي شهرا كاملا جعل هذه القضية تنضج، فهذا تكلم، والذي سمع تكلم، والذين سمع تكلم، هذا وقف موقفا محايدا، هذا وقف موقفا فيه حسن ظن، هذا وقف موقفا فيه إساءة ظن، هذا سمع وسكت، هذا سمع وأشاع، هذا سمع وروج، هذا سمع وفرح، هذا سمع وحزن، هذا الذي حزن له مقام، وهذا الذي فرح له درك في النار، وهذا الذي روج يحاسب على ترويجه، وهذا الذي سكت يشكر على سكوته، وهذا الذي تمنى كُتب عليه تمنيه، وكل إنسان من المؤمنين وقف موقفا دقيقا جدا سجل عليه:
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾
(سورة آل عمران: من الآية181)
أنت ماذا قلت ؟ كتب عليك، لماذا يخلع قلب الإنسان حينما يقال له: اكتب هذه الإفادة، وفيها أمر خطير، ثم وقِّعْ، لماذا؟ لأن هذه الإفادة أصبحت وثيقة يدان بها.
لذلك يقول ربنا عز وجل:
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبَ مَا قَالُوا﴾
هذا القول سجِّل عليهم، وسوف يعرض عليهم يوم القيامة، وسوف يحاسبون عليه حسابا عسيرا، فالإنسان عليه أن يضبط لسانه:
احفظ لسانك أيها الإنســـان لا يلدغنك إنه ثعبـــان
كم في المقابر من قتيل لسانـه كانت تهاب لقاءه الشجعان
***
إذا كنت أيها الإنسان تحفظ لسانك خوفا من بطش إنسان فما قولك إذا كان الواحد الديان سيحاسبك، أتَتَّهم الناس بالباطل؟
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
(سورة الإسراء: الآية 36)
وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ لَيَهْدِمُ عَمَلَ مِئَةِ سَنَةٍ ))
[الحاكم في المستدرك، والبزار في مسنده ]
الوقفة الثامنة: انضباط المؤمن:
فأيها الإخوة الأكارم، أتمنى، وأتمنى من كل قلبي أن ينضبط المؤمن، ألاّ يخوض في أعراض الناس، ألاّ يخوض فيما ليس له به علم، ألا يهرف بما لا يعرف، ألا يتهم من دون دليل قطعي، هذا اللسان يحاسب الإنسان عليه، وفي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
[أحمد في مسنده(13071)]
الوقفة التاسعة: نصرة الله للبريء:
شيء آخر، إذا كنت مع الله، وإذا كنت بريئا فأبشر، فإن الله سبحانه وتعالى لابد أن ينصرك، ولابد أن يظهر حقيقتك، ولو لغا الناس، ولو لاك الناس بعض الأحاديث بألسنتهم، ولم يبالوا بالحقيقة، فالنبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، وحبيب الحق، وهذه زوجته الطاهرة المطهرة، ومع ذلك أرجف المنافقون في المدينة أقوالا لا أساس لها من الصحة، أرجفوا بهذه الأقوال، وشككوا الناس بها، ولغطوا بها، وعاش النبي عليه الصلاة والسلام، وعاشت زوجته، وعاش أبوها الصديق رضي الله عنه، وعاشت أمها شهرا من الحزن والألم، من البكاء المستمر، إلى أن تولى الله سبحانه وتعالى بقرآنه تبرئتها، إذا أنت أيها المؤمن تستنبط من هذا الحديث أنك إذا كنت على حق فلا تخش إلا الله، وإذا كنت على حق فاطمئن إلى أن الله لابد أن يظهر الحق، لأنه هو الحق، الحق من أسمائه، فإذا كنت بريئا ومظلوما فأبشر، فلابد أن تظهر قضيتك على حقيقتها، ولابد أن تظهر براءتك، ويظهر طيبك، والله سبحانه وتعالى يتولى ذلك.
قال بعضهم: لِمَ لَمْ يعلن النبي للناس أن هذه الزوجة السيدة عائشة بريئة من هذه التهمة ؟ لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام حكيما، كان حكيما إلى أقصى درجة، لأنه لو أعلن براءة زوجته فإنه طرف في القضية، إنها زوجته، إذاً لأُخِذَ كلامه من قبل أعداء الإسلام، من قبل المنافقين على أنه تغطية، وعلى أنه محاباة، وعلى أنه دفاع بغير حق، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أظهر حكمته في أعلى مستوياتها، حينما امتنع هو على أن يدلي برأي في هذا الموضوع، وحينما أخذ موقفا معتدلا.
الوقفة العاشرة: الصبر والموقف المعتدل في أثناء الفتن والمحن:
كان إذا دخل على عائشة من قبل رضي الله عنها يقول: كيف عويش ؟ وكان اسما محببا لها، كان النبي عليه الصلاة والسلام زوجا مثاليا، وكان مما أثر عنه أنه إذا دخل بيته كان بساما ضحاكا، وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لا تُكْرِهُوا الْبَنَاتِ فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ ))
[أحمد عن عقبة بن عامر]
وكان يقول:
(( أَكْرِمُوهُنَّ فَوَاللَّهِ مَا أَكْرَمَهُنَّ إِلاَّ كَرِيمٌ، وَلاَ أَهَانَهُنَّ إِلاَّ لَئِيمٌ، يَغْلِبْنَ كُلَّ كَرِيمٍ، وَيَغْلِبُهُنَّ لَئِيمٌ ))
[فيض القدير (3/496)]
وعن عائشة قالت قلت: يا رسول الله:
(( كَيْفَ حُبُّكَ لِي ؟ قَالَ: كَعُقْدَةِ الْحَبْلِ، فَكُنْتُ أَقُولُ: كَيْفَ الْعُقْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: هِيَ عَلَى حَالِهَا ))
[أبو نعيم في الحلية(2/44)]
أي لا تنفك فكانت من حين لآخر تسأله مطمئنة عن نفسها فتقول:
((كَيْفَ الْعُقْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: هِيَ عَلَى حَالِهَا ))
كان النبي عليه الصلاة السلام إذا دخل بيته فكأنه واحد في هذا البيت، هذا المقام العظيم الذي كرمه الله به لم يكن يستخدمه في البيت، كان يركب الحسن والحسين على ظهره الشريف، فَعَنْ جَاِبٍر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(( دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعَلَى ظَهْرِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيِنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَقُولُ: نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا، وَنِعْمَ الْعِدْلاَنِ أَنْتُمَا ))
[الطبراني في المعجم الكبير]
وكان يتسابق مع السيدة عائشة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
(( أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ))
[أبو داود، النسائي، أحمد]
عودها الأنس، عودها اللطف، عودها التبسم، عودها الإيناس، لكنه حينما راج هذا الحديث أخذ موقفا آخر، دخل عليها فقال: كيف تيكم ؟ كيف تيكم ؟ هذا موقف آخر، فالذي أريد أن أقوله: إن النبي عليه الصلاة السلام ظهرت حكمته في أعلى مستوياتها، وظهر صبره، أحيانا يأتيك خبر فيهز كيانك، يأتيك خبر فتفقد توازنك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كالجبل الراسخ، كالطود الأشم، لم يتزلزل، ترك الأمر لله عز وجل، ووقف موقفا حليما.
الوقفة الحادية عشرة: حرمة سوء الظن بالمسلم:
شيء آخر، علمتنا هذه القصة أنه يحرم على المؤمنين سوء الظن بإخوانهم، لذلك جاء في بعض الأثر أنه من أساء الظن بأخيه فقد أساء الظن بربه، وشيء آخر في هذا الحديث حديث الإفك الذي قال الله عنه:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
وهو أن من عُرِف بالصلاح لا يُعْدَل بهذه المعرفة عنها إلى ظن السوء لخبر يلقيه إنسان، فمثله كمثل بناء شامخ، هذا البناء لا ينهار بكلمة، لا ينهار إلا بقنابل، بناء من الإسمنت المسلح متين، له أساس، بناء راسخ، سمعة المؤمن غالية على الله سبحانه وتعالى، بناؤه الراسخ لا يهتز بكلمة يقولها إنسان، لذلك فالله سبحانه وتعالى أدبنا في كتابه الكريم فقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾
(سورة الحجرات: الآية 6)
الوقفة الثانية عشرة: الأصل القاذف التكذيب الشرعي:
وحكم آخر يستنبط من هذا الحديث، أن القاذف الذي يلغط بأعراض المؤمنات أو بأعراض المؤمنين مكذبٌ شرعا ما لم يأت بالشهداء الأربعة، فأيّ قاذف يقذف امرأة أو رجلا فهو مكذب شرعا ما لم يأت بالشهود، وعلى أولي الأمر أن يقيموا عليه حد القذف، وهو ثمانون جلدة.
الوقفة الثالثة عشرة: الأصل ستر المؤمن وعدم هتك الأعراض:
شيء آخر يستنبط من هذه القصة وهو الحث على ستر المؤمن، وعدم هتك سره، فمن آداب الإيمان أنك لو رأيت شيئا لا يروق لك فلا ينبغي أن تشيع هذا الخبر، لأن إشاعة هذا الخبر تزلزل بعض الناس، وتضعف الثقة بالمؤمن، فكان من لوازم الإيمان أن تكتم هذا الخبر، وكنت قد حدثتكم بقصة: أن رجلا تزوج امرأة، وبعد أن مضى على دخوله بها خمسة أشهر كبر بطنها، وكانت على وشك الوضع، فما شك أبدا من أنها قد زلت قدمُها قبل أن يقترن بها، فجاءها بمولدّة وولدت، وأخذ هذا الوليد، ودخل إلى أحد المساجد القريبة من بيته بعد أن نوى الإمام صلاة الفجر، ووضع هذا الوليد في زاوية المسجد، وأتم مع الإمام، فلما سمع المصلون صراخ هذا الوليد تحلقوا حوله، فتقدم وكأنه لا علم له بالقصة، فقال: ما هذا، قالوا: تعال انظر، وليد صغير ! فقال: أعطوني إياه، أنا أكفله، فأخذه، ودفعه إلى أمه بعد أن تابت على يديه، وحفظ سرها، هذا الرجل يسكن إلى جوار المسجد، رأى خطيب المسجد في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا له: يا فلان بلغ جارك فلانًا أنه رفيقي في الجنة، فهذا عمل عظيم، إذا كان بالإمكان أن تستر، إذا كان بالإمكان أن يتوب هذا الإنسان على يديك، فليس القصد أن تفضحه، القصد أن تأخذ بيده، القصد أن تعينه على الشيطان، لا أن تعين الشيطان عليه، هذا هو القصد، وقد مر بنا في درس الأحد كيف أن سيدنا عمر حينما جاءه رجل وقال: يا أمير المؤمنين رأيت فلانا وفلانة خلف النخل يتعانقان، فخفقه بالدرة، وقال ما معناه: ماذا فعلت أنت بهذا الخبر، الإسلام لا يحب أن تشيع الفاحشة، لا يحب خبر السوء، لا يحب الفضيحة، أما إذا بلغ الإمام أن فلانا فعل كذا وكذا مما يوجب عليه الحد فلا عفا الله عنه إن عفا.
إذا بلغ الإمام الموكل بإقامة الحد حادثة زنى فلا عفا الله عنه إن عفا، ولكن إذا كان بإمكانك أن تدرأ الحدود بالشبهات، أن تستر، أن تصلح، أن تعين أخاك على الشيطان فافعل.
قال بعض أصحاب رسول الله: من حدث بما أبصرت عيناه، أو بما سمعت أذناه فهو ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا توعدهم الله بعذاب أليم في الدنيا والآخرة.
الوقفة الثالثة عشرة: حرمة سوء الظن بالمسلم: من أشاع فاحشة فعليه النكال:
وهناك حكم آخر استنبط من هذه القصة، هو من أشاع فاحشة فعليه النكال، وإن كان صادقا، وقد سئل أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيدنا الحسن: ما معنى إشاعة الفاحشة ؟ ما حدها ؟ فقال:
((هو الرجل يتكلم عنده في حق رجل فيشتهي ذلك، ولا ينكره ))
يشتهي أن يشيع هذا الخير، وما أعرف معصية يعاقب عليها بالرغبة فقط مثل هذه المعصية،
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾
لم يقل الله عز وجل: إن الذين يشيعون الفاحشة، بل قال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ﴾
فالعقاب على محبتك على أن تشيع الفاحشة.
أيها الإخوة الأكارم، هذه بعض الاستنباطات التي وردت في كتاب الله تحت قوله تعالى:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
وقد يمتحننا الله سبحانه وتعالى بامتحان يمحص الله به المؤمنين من الفساق، والمؤمنين من المنافقين، والآية التي تلي هذه الآية هي قوله تعالى:
﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
(سورة النور)
معاني الآية:
هذه الآيات لها معان متعددة:
المعنى الأول: الخبيث لا يألف إلا خبيثة
من أبرز معانيها: أن الإنسان الطيب الطاهر العفيف المستقيم على أمر الله، الذي عرف ربه، وسمت نفسه، هذا الإنسان لا يمكن أن يأتلف مع امرأة زانية، لا يمكن أن يتعايش معها، لا يمكن أن يحتملها، لا يمكن أن تكون امرأته، لأن الطيبين للطيبات، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أطيب الطيبين فالسيدة عائشة أطيب الطيبات.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
فلو أن الله عز وجل قال:
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾
فلمَ قال بعدها:
﴿وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾
هذا من البلاغة، وهو حصر من جهتين، من باب التأكد أن الخبيث يشتهي خبيثة، وأن المتفلت من قواعد الأخلاق يشتهي المتفلتة، وأن المنحرف يشتهي المنحرفة، وأن الزاني يعجب بالزانية، وأن الطيب يحب الطيبة، وأن الورع يحب الورعة، وأن العفيف يحب العفيفة.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾
فإن أتيح لها أن تختار فلا تختار الخبيثة إلا خبيثا، وإن أتيح للخبيثين أن يختاروا فلا يختارون إلا خبيثة مثلهم، وإن الطيور على أشكالها تقع، وكل إناء ينضح بما فيه، فالخبيثون للخبيثات، والخبيثات للخبيثين، والطيبات للطيبين، الشاب المؤمن الطاهر لا يرضى، ولا يطمح إلا إلى زوجة طاهرة مستقيمة، تحب الله ورسوله، وتتقي الله في كل أمورها، تصلي، هذا الذي يغريه جمال الفتاة، وينسى أن في دينها رقة، هذا سوف يدفع الثمن باهظا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ ذُلاًّ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ بِهَا إِلاَّ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ، وَيُحَصِّنَ فَرْجَهُ، أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، وَبَارَك لَهَا فِيهِ))
[الطبراني في الأوسط، والترهيب والترغيب عن أنس]
والله الذي لا إله إلا هو ما سمعت من شاب تزوج امرأة، وآثر دينها على أي شيء آخر إلا سعد بها، وما سمعت رجلا تزوج امرأة ضحى بالدين من أجل شيء آخر إلا شقي بها، فعليك بذات الدين تربت يداك، لذلك هذه الآية تفيد كيف أن يحب النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة، وهو أطيب الطيبين ؟ فلابد أن تكون أطيب الطيبات، أيعقل أن تأتلف نفس النبي مع امرأة غير مستقيمة ؟.
أيعقل أن تتعلق نفس النبي بامرأة ليست محبة لله عز وجل ؟ هذه الآية الأخيرة في هذا الحديث ؛ حديث الإفك هي الحقيقة المطلقة.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
عندنا حكم شرعي آخر، هذه الآية لا تمنع أن تستمع إلى قصة مفادها أن هناك امرأة صالحة صائمة مصلية لها زوج سكير عربيد، هذه الآية ساقها الله على شكل خبر، لكن يفيد بها النهي، أيْ: يا عبادي ينبغي أن يكون الطيبون للطيبات، فإذا كانت عندك ابنة شريفة طاهرة عفيفة فلا تفرط فيها، لا تسلمها إلى إنسان لست متأكدا من دينه، ولا من خلقه، الزواج رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته، هذا توجيه.
إن كانت ابنتك طيبة فلا تفرط فيها، وكم في المجتمع من مآس سببها أن الأب استعجل زواج ابنته، فوقع في ندم شديد.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
هذا حكم شرعي، بمعنى أنه يجب، فأولياء الأمور، أولياء الطيبات، أو أولياء الشباب لا ينبغي لعارض من الدنيا إذا جاءنا خاطب عنده بيت، والبيت الآن صعب توافره، أو عنده سيارة، أو عنده معمل، أو عنده محل تجاري، أو دخله كبير، أو أبوه غني، وهو لا يصلي، وهو ليس مستقيما، لا ينبغي أن تفرط بهذه الابنة.
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
[سورة البقرة: الآية 221]
المعنى الثاني: الكلمات الخبيثات لا ينطق بها إلا الخبيثون:
وثمة معنى آخر لهذه الآية ؛ الكلمات الخبيثات لا ينطق بها إلا الخبيثون، الكلمة الخبيثة، الكذب، المزاح الرخيص، الفحش، البذاءة، الغيبة، النميمة، الخبيثات أي الكلمات الخبيثات لا ينطق بها إلا الخبيثون، هناك انسجام نفس، كلها مياه آسنة، فإذا أخرجت منها الماء ماذا ترى ؟ إذا انحنيت على الحاوية لتأخذ ما فيها ماذا ترى فيها ؟ أترى الذهب والفضة ؟ أترى قطع الماس ؟ أترى فيها باقات الزهور ؟ ماذا ترى فيها ؟ ليس فيها إلا القمامة، والعلب الثمينة لا تنطوي إلا على الحلي الغالية، فالمعنى الثاني الذي جاء في بعض التفاسير بل في معظمها - والمعنى الأول هو أقوى المعاني إن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع مثيلاتها، وأن النفوس الطيبة لا تتوافق إلا مع مثيلاتها - لكن المعنى الثاني أن الكلمات الخبيثة ؛ هذا الذي ينطق بطرفة ماجنة أعتقد اعتقادا جازما أن له نفسا ماجنة، وأنه ينطوي على نفس خبيثة، المؤمن الحق لا يطرب لهذا المزاح، لا يضحك له، ينزعج منه، نفسه طاهرة، لذلك الكلمات الخبيثة لا ينطق بها إلا الخبيثون، فالكلمات الخبيثة مثل هذا الافتراء، مثل هذا الترويج، مثل هذه الأكاذيب، مثل هذه الضلالات، مثل كلمة الفحش، مثل الكذب، هذا كله كلمات خبيثة.
المعنى الثالث: الأعمال الخبيثة لا تصدر إلا نفوس خبيثة:
هناك تفسير آخر، الأفعال الخبيثة لا تصدر إلا عن نفوس خبيثة، أن تنظر إلى ما لا يحل لك فهذا فعل خبيث، أن تفعل شيئا فيه مقت لله عز وجل، هذا فعل خبيث لا يصدر إلا عن نفس خبيثة، فأصبحت هذه الآية تعني ثلاثة أشياء ؛ الشيء الأول: أن المرأة الخبيثة لا تتوافق إلا مع خبيث مثلها، شيطان وشيطانة، والثاني: أن الكلمة الخبيثة لا ينطق بها إلا الخبيث، والثالث: أن الأفعال الخبيثة لا تصدر إلا عن الخبيث، وبالمقابل الكلمات الطيبة ؛ كلمات الطهر والعفاف ربنا عز وجل علمنا في كتابه كيف نكني عن بعض المعاني التي تخدش حياء الإنسان فقال:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المؤمنون: الآيات 5-7]
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾
هذه كناية لطيفة جدا.
﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾
[سورة النساء: الآية43]
كيف يفهم هذه الكلمة طفل:
﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾
ربنا عز وجل علمنا الأدب، والدين كله أدب، هذا الذي يقول: لا حياء في الدين، هذه كلمة حق أريد بها باطل، يعني لا حياء أن تتعلم أمور دينك، أما أن تسمي الأشياء بأسمائها، وقد تخدش بها حياء الأطفال فهذا ليس من الدين في شيء، النبي عليه الصلاة والسلام كان أشد حياء من العذراء في خدرها، سألته مرة امرأة عن قضية نسائية فوجهها، فلما أرادت أن تستزيد، وكان في هذه الاستزادة إحراج له يروي أصحابه أن لونه تغير، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ:
(( خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ ؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! تَطَهَّرِي، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ ))
[البخاري، مسلم، النسائي ]
وفي رواية أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذُكِرَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ فَأَثْنَتْ عَلَيْهِنَّ، وَقَالَتْ لَهُنَّ مَعْرُوفًا، وَقَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النُّورِ عَمَدْنَ إِلَى حُجَزِ أَوْ حُجُوزِ مَنَاطِقِهِنَّ فَشَقَقْنَهُ، ثُمَّ اتَّخَذْنَ مِنْهُ خُمُرًا، وَأَنَّهَا دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الطُّهُورِ مِنْ الْمَحِيضِ فَقَالَ:
(( نَعَمْ، لِتَأْخُذْ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَلْتَطَّهَّرْ، ثُمَّ لِتُحْسِنْ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبَّ عَلَى رَأْسِهَا، ثُمَّ لِتُلْزِقْ بِشُؤُونِ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَدْلُكْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ طُهُورٌ، ثُمَّ تَصُبَّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ تَأْخُذْ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَلْتَطَّهَّرْ بِهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا ؟ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْنِي عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: تَتْبَعُ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ، قَالَ عَفَّانُ: ثُمَّ لِتَصُبَّ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ الْمَاءِ، وَلْتُلْصِقْ شُؤُونَ رَأْسِهَا فَلْتَدْلُكْهُ، قَالَ عَفَّانُ: إِلَى حُجَزٍ أَوْ حُجُوزٍ ))
[أحمد]
فمن علامات المؤمن أنه حيي، كثير الحياء.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
فالكلمات الطيبات تشف عن نفوس طيبة، الاعتذار، الأدب، الصدق، الكلمات التي تعبر عن المودة هذه تدل على نفس طيبة كريمة موصولة بالله عز وجل، والكلمات الطيبات لا تصدر إلا عن نفوس طيبة، ولكن الذي يرجح المعنى الأول من أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا بمثيلاتها.
نهاية هذه الآية:
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾
أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
مما يقول المنافقون، مما يقول أهل الكفر، مما يرجفون به في المدينة.
﴿أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
يغفر الله لهم، ويرزقهم رزقا كريما.
هذه الآية ينتهي بها حديث الإفك، وهذا الحديث كما قال الله عز وجل فيه خير كثير، وهذا الحديث يجب أن نستنبط منه استنباطات تعلمنا كيف نتعامل مع إخواننا المؤمنين الطاهرين الصادقين، وفي درس قادم إن شاء الله نبدأ بقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
(سورة النور)
هنا الموانع الاحترازية، أو التدابير الاحترازية التي تقي من الزنى كعدم الخلوة وغير ذلك.
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وقفات تحليلية متأنية لحديث الإفك:
الوقفة الأولى: العبرة في القصة عبرها ودروسها لا أحداثها وتفاصيلها:
أيها الإخوة المؤمنون، لازلنا في سورة النور، ومع الدرس السابع من هذه السورة، ولابد من وقفة أخرى عند " حديث الإفك "، ففي هذا الحديث كما وصفه الله سبحانه وتعالى خير كثير، لأن أية قصة في القرآن الكريم كما قلت لكم في الدرس الماضي ليست مقصودة لذاتها، إنما المقصود أن يستنبط منها قواعد في الآداب العامة، وفي المعاملات، وهذا حديث الإفك خير، كما قال الله سبحانه وتعالى:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
(سورة النور: الآية 11)
الوقفة الثانية: كان من الممكن أن لا يقع الإفك ولكن …:
لو وقفنا وقفة عند هذا الحديث نجد أنه كان بأمر الله، فكان من الممكن ألا تكون القرعة من نصيب السيدة عائشة مع رسول الله في هذه الغزوة، وكان من الممكن ألا يكون لها حاجة إلى قضاء الحاجة، لو لم تذهب لقضاء الحاجة لما كانت كل هذه القصة، وكان من الممكن ألا ينقطع عقدها، وهي تقضي حاجتها، وكان من الممكن أن ينقطع عقدها، ولا تنتبه إليه، وكان من الممكن أن ينقطع عقدها، وتنتبه إليه، ولا تعود من أجله، وكان من الممكن إذا عادت أن ينتظرها النبي عليه الصلاة والسلام، وكان من الممكن إذا حُمِلَ الهودج أن يشعر من حَمَلَهُ أنه فارغ، لو ذهبت في هذا الطريق إلى الممكنات لوجدت أن هذا الحديث وقع بأمر الله، و نستنبط من هذا التحليل أن كل شيء وقع أراده الله، لذلك فلا تأسَ على ما فات، ولا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فكلمة لو تفتح عمل الشيطان، وقد أشار ربنا عز وجل في قصص كثيرة، وفي آيات كثيرة إلى ذلك:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾
(سورة يوسف: الآية 21)
الوقفة الثالثة: إظهار كل إنسان على حقيقته:
فهذا الحديث وقع بهذا الشكل، لو تابعنا هذا التحليل، كان من الممكن ألا يأتي صفوان، وكان من الممكن أن يتفقدها النبي عليه الصلاة والسلام، فيأمر أصحابه أن يعودوا إلى الموقع ليأخذوها، إذاً هذا ترتيب إلهي، فيه حكمة ما بعدها حكمة، من أجل أن يظهر كل إنسان على حقيقته.
الوقفة الرابعة: بشرية النبي عليه الصلاة والسلام:
ربنا سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، ويأمره أن يبلغنا أنه بشر، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ:
(( كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ فَقَالَ: آنْتِ هِيَهْ، لَقَدْ كَبِرْتِ، لا كَبِرَ سِنُّكِ، فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالآنَ لا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، أَوْ قَالَتْ: قَرْنِي، فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))
[أخرجه مسلم]
لئلا يعبده الناس من دون الله، لئلا يقال: إنه ابن الله، هو رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، فربنا سبحانه وتعالى في هذا الحديث أراد أن يعلمنا أنه بشر، كما أراد أن نرى بأعيننا أنه بشر، نبي كريم عنده زوجة طاهرة عفيفة مؤمنة قانتة لله عز وجل، والناس يتحدثون أنها زنت، ماذا يفعل ؟ كيف له أن ينفي هذا ؟ ليس في إمكانه أن يثبته، ولا في إمكانه أن ينفيه، ولقد تأخر الوحي، لو أن الوحي جاء بعد يوم أو يومين لما كانت ثمة مشكلة، لكن الوحي تأخر شهرا بكامله، من أجل أن يظهر كل إنسان على حقيقته، فمن كان في قلبه مرض، من كان يبطن العداوة، من كان يتمنى أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ظهر على حقيقته جليا، ومن كان مؤمنا يحسن الظن بنبيه، وبأهل بيته قاس الأمور على نفسه، فقال: يا أم أيوب لو أنك مكان عائشة أتفعلين ما يقال عنها ؟ قالت: لا، والله لا أخون رسول الله، وقال: أما أنا فوالله لا أخون النبي في أهله، وصفوان أفضل مني، وعائشة أفضل منك، هؤلاء المؤمنون الصادقون، هؤلاء الذين يحبون نبيهم، ويحسنون الظن به، هؤلاء الذين ينزهون نبيهم، وأهل بيته عن كل دنس، هؤلاء قاسوا الأمور على أنفسهم، وأحسنوا الظن، فكأن هذا الحديث أبرز المخلصين الصادقين، وأبرز المنافقين والفاجرين، لذلك قال الله سبحانه وتعالى:
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
(سورة آل عمران: الآية 179)
لله أساليب كثيرة، فعل هذا يوم الخندق ؛ يوم أحدق الكفار والمشركون بالمدينة، ويوم خان اليهود عهدهم مع النبي على عادتهم، ويوم انكشف ظهر النبي عليه الصلاة والسلام، وأصبح الإسلام قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، قال تعالى:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) ﴾
(سورة الأحزاب:الآيات 11-12)
أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، وأما المؤمنون الصادقون فقد وصفهم الله عز وجل بقوله:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
(سورة الأحزاب: الآية 23)
الوقفة الرابعة: في زمان ومكان امتحان للمسلم: إِنَّا كُنَّا مُبْتَلِينَ:
إن موضوع الخندق كان امتحاناً دقيقاً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث الإفك امتحان آخر دقيق لهم، ونحن في كل زمان، وفي كل مكان لابد من امتحانات، سيسقط فيها من يسقط، وينجح فيها من ينجح، قد يكون هذا الامتحان كاشفا، وقد يكون دافعا، فهذه الامتحانات تتكرر، والتاريخ يعيد نفسه، وفي كل بيت هناك امتحان، قد يؤمن الرجل بالله عز وجل، ويتوب إليه، ويفعل الصالحات... يضيق رزقه، ويضيق، ويضيق، ماذا يفعل ؟ يعصي الله ؟ أيأكل مالا حراما ؟ إن هذا التضييق في الرزق امتحان من الله عز وجل، قد يعرض للإنسان موقف يخلو فيه بامرأة لا تحل له، ماذا يفعل ؟ أيغادر المكان ؟ أم يبقى ؟ امتحان، والله الذي لا إله إلا هو ما من مؤمن يقول: إني مؤمن إلا وهو معرض للامتحان عشرات، بل مئات المرات في اليوم، أو في الأسبوع، فقد يمتحن الإنسان بالمال ؛ بوفرته، وبفقده، يمتحن بالنساء بالحالتين، يمتحن بالقوة، يقوى فيطغى، أم ينصف ؟ يضعف فيزل، أم يصبر ؟ فربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّا كُنَّا مُبْتَلِينَ﴾
(سورة المؤمنون: الآية30)
ويقول:
﴿َ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
(سورة الملك: الآية 2)
فهذا الحديث:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
لأن المؤمنين ظهروا على حقيقتهم، برزوا كالنجوم المتألقة في السماء، والمنافقون ظهروا كالوحول تحت الأقدام، ظهرت نيتهم، وظهر خبثهم، وظهر انحرافهم، وظهر سوء ظنهم، وظهر فرحهم بأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فهذا الحديث كما قلنا حديث فيه خير كثير.
الوقفة الخامسة: لسان حال النبي عليه الصلاة والسلام: قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا
أشار العلماء إشارة دقيقة جدا، السيدة عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، وهو رسول الله، وسيد الخلق، وحبيب الحق حينما تحدث الناس عنها ما كان بإمكان النبي أن يبرئها، كأن الله عز وجل أراد أن يمتحنها، فلما نزلت براءتها بادرت إلى السجود لله عز وجل، وحمده، وحده، إذا كان الإنسان أحيانا يتعلق ببشرٍ مثله، وهذا الإنسان عبد، ربنا عز وجل يخاطبنا، يبلغنا، أو يبلغ النبي أن يبلغنا:
﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا﴾
(سورة الأعراف: الآية 188)
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ﴾
(سورة الأعراف: من الآية 188)
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنا نفعا ولا ضرا، فَلأَنْ لا يملك لنفسه من باب أولى، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام عبد لله، فحتى في حديث الإفك لم يملك النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الزوجة المخلصة العفيفة الطاهرة أن يبرئها حتى برأها الله عز وجل في قرآنه الكريم، وكانت السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها تقول: كنت أظن أن يرى النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا تبرئني، فكنت أحقرَ من أن ينزّل فيّ قرآنًا، ولكن قرآنا يتلى إلى قوم القيامة نزل في تبرئة عائشة، فلماذا ؟.
الوقفة السادسة: أهداف المنافقين تتعدى الأشخاص:
قال بعض العلماء: إن المنافقين ما أرادوا في حديث الإفك أن ينالوا من السيدة عائشة بقدر ما أرادوا أن ينالوا من النبي عليه الصلاة والسلام، بل إنهم ما أرادوا أن ينالوا من النبي عليه الصلاة والسلام بقدر ما أرادوا أن ينالوا من هذه الدعوة الجديدة.
أحيانا حينما يتحدث الناس عن إنسان طاهر، عفيف، مخلص، صادق، حينما يلغطون بحديث يتعلق بحياته الشخصية، إنهم لم يتمكنوا أن يردوا دعوته، ولم يتمكنوا أن يقارعوه الحجة بالحجة، فعمدوا إلى ترويج قصص ملفقة عن حياته الخاصة، فلذلك لم يُرِدْ المنافقون، والذين أرجفوا في المدينة شخصَ السيدة عائشة، بل أرادوا شخص النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يريدوا شخص النبي بل أرادوا هذه الدعوة التي جاءت نوراً للناس، لذلك تولى الله سبحانه وتعالى بقرآنه الكريم تبرئة هذه السيدة العفيفة الطاهرة، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ ؟ فَقَالَ: أَبُوهَا، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَعَدَّ رِجَالًا ))
[أخرجه البخاري، ومسلم، الترمذي]
الوقفة السابعة: الحكمة من انقطاع الوحي في فترة الإفك:
حكمة أخرى من هذا الحديث كما نوهت بها قبل قليل هو أن انقطاع الوحي شهرا كاملا جعل هذه القضية تنضج، فهذا تكلم، والذي سمع تكلم، والذين سمع تكلم، هذا وقف موقفا محايدا، هذا وقف موقفا فيه حسن ظن، هذا وقف موقفا فيه إساءة ظن، هذا سمع وسكت، هذا سمع وأشاع، هذا سمع وروج، هذا سمع وفرح، هذا سمع وحزن، هذا الذي حزن له مقام، وهذا الذي فرح له درك في النار، وهذا الذي روج يحاسب على ترويجه، وهذا الذي سكت يشكر على سكوته، وهذا الذي تمنى كُتب عليه تمنيه، وكل إنسان من المؤمنين وقف موقفا دقيقا جدا سجل عليه:
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾
(سورة آل عمران: من الآية181)
أنت ماذا قلت ؟ كتب عليك، لماذا يخلع قلب الإنسان حينما يقال له: اكتب هذه الإفادة، وفيها أمر خطير، ثم وقِّعْ، لماذا؟ لأن هذه الإفادة أصبحت وثيقة يدان بها.
لذلك يقول ربنا عز وجل:
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبَ مَا قَالُوا﴾
هذا القول سجِّل عليهم، وسوف يعرض عليهم يوم القيامة، وسوف يحاسبون عليه حسابا عسيرا، فالإنسان عليه أن يضبط لسانه:
احفظ لسانك أيها الإنســـان لا يلدغنك إنه ثعبـــان
كم في المقابر من قتيل لسانـه كانت تهاب لقاءه الشجعان
***
إذا كنت أيها الإنسان تحفظ لسانك خوفا من بطش إنسان فما قولك إذا كان الواحد الديان سيحاسبك، أتَتَّهم الناس بالباطل؟
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
(سورة الإسراء: الآية 36)
وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إِنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ لَيَهْدِمُ عَمَلَ مِئَةِ سَنَةٍ ))
[الحاكم في المستدرك، والبزار في مسنده ]
الوقفة الثامنة: انضباط المؤمن:
فأيها الإخوة الأكارم، أتمنى، وأتمنى من كل قلبي أن ينضبط المؤمن، ألاّ يخوض في أعراض الناس، ألاّ يخوض فيما ليس له به علم، ألا يهرف بما لا يعرف، ألا يتهم من دون دليل قطعي، هذا اللسان يحاسب الإنسان عليه، وفي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))
[أحمد في مسنده(13071)]
الوقفة التاسعة: نصرة الله للبريء:
شيء آخر، إذا كنت مع الله، وإذا كنت بريئا فأبشر، فإن الله سبحانه وتعالى لابد أن ينصرك، ولابد أن يظهر حقيقتك، ولو لغا الناس، ولو لاك الناس بعض الأحاديث بألسنتهم، ولم يبالوا بالحقيقة، فالنبي عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، وحبيب الحق، وهذه زوجته الطاهرة المطهرة، ومع ذلك أرجف المنافقون في المدينة أقوالا لا أساس لها من الصحة، أرجفوا بهذه الأقوال، وشككوا الناس بها، ولغطوا بها، وعاش النبي عليه الصلاة والسلام، وعاشت زوجته، وعاش أبوها الصديق رضي الله عنه، وعاشت أمها شهرا من الحزن والألم، من البكاء المستمر، إلى أن تولى الله سبحانه وتعالى بقرآنه تبرئتها، إذا أنت أيها المؤمن تستنبط من هذا الحديث أنك إذا كنت على حق فلا تخش إلا الله، وإذا كنت على حق فاطمئن إلى أن الله لابد أن يظهر الحق، لأنه هو الحق، الحق من أسمائه، فإذا كنت بريئا ومظلوما فأبشر، فلابد أن تظهر قضيتك على حقيقتها، ولابد أن تظهر براءتك، ويظهر طيبك، والله سبحانه وتعالى يتولى ذلك.
قال بعضهم: لِمَ لَمْ يعلن النبي للناس أن هذه الزوجة السيدة عائشة بريئة من هذه التهمة ؟ لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام حكيما، كان حكيما إلى أقصى درجة، لأنه لو أعلن براءة زوجته فإنه طرف في القضية، إنها زوجته، إذاً لأُخِذَ كلامه من قبل أعداء الإسلام، من قبل المنافقين على أنه تغطية، وعلى أنه محاباة، وعلى أنه دفاع بغير حق، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أظهر حكمته في أعلى مستوياتها، حينما امتنع هو على أن يدلي برأي في هذا الموضوع، وحينما أخذ موقفا معتدلا.
الوقفة العاشرة: الصبر والموقف المعتدل في أثناء الفتن والمحن:
كان إذا دخل على عائشة من قبل رضي الله عنها يقول: كيف عويش ؟ وكان اسما محببا لها، كان النبي عليه الصلاة والسلام زوجا مثاليا، وكان مما أثر عنه أنه إذا دخل بيته كان بساما ضحاكا، وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لا تُكْرِهُوا الْبَنَاتِ فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ ))
[أحمد عن عقبة بن عامر]
وكان يقول:
(( أَكْرِمُوهُنَّ فَوَاللَّهِ مَا أَكْرَمَهُنَّ إِلاَّ كَرِيمٌ، وَلاَ أَهَانَهُنَّ إِلاَّ لَئِيمٌ، يَغْلِبْنَ كُلَّ كَرِيمٍ، وَيَغْلِبُهُنَّ لَئِيمٌ ))
[فيض القدير (3/496)]
وعن عائشة قالت قلت: يا رسول الله:
(( كَيْفَ حُبُّكَ لِي ؟ قَالَ: كَعُقْدَةِ الْحَبْلِ، فَكُنْتُ أَقُولُ: كَيْفَ الْعُقْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: هِيَ عَلَى حَالِهَا ))
[أبو نعيم في الحلية(2/44)]
أي لا تنفك فكانت من حين لآخر تسأله مطمئنة عن نفسها فتقول:
((كَيْفَ الْعُقْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: هِيَ عَلَى حَالِهَا ))
كان النبي عليه الصلاة السلام إذا دخل بيته فكأنه واحد في هذا البيت، هذا المقام العظيم الذي كرمه الله به لم يكن يستخدمه في البيت، كان يركب الحسن والحسين على ظهره الشريف، فَعَنْ جَاِبٍر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(( دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَعَلَى ظَهْرِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيِنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَقُولُ: نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا، وَنِعْمَ الْعِدْلاَنِ أَنْتُمَا ))
[الطبراني في المعجم الكبير]
وكان يتسابق مع السيدة عائشة، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
(( أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ ))
[أبو داود، النسائي، أحمد]
عودها الأنس، عودها اللطف، عودها التبسم، عودها الإيناس، لكنه حينما راج هذا الحديث أخذ موقفا آخر، دخل عليها فقال: كيف تيكم ؟ كيف تيكم ؟ هذا موقف آخر، فالذي أريد أن أقوله: إن النبي عليه الصلاة السلام ظهرت حكمته في أعلى مستوياتها، وظهر صبره، أحيانا يأتيك خبر فيهز كيانك، يأتيك خبر فتفقد توازنك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كالجبل الراسخ، كالطود الأشم، لم يتزلزل، ترك الأمر لله عز وجل، ووقف موقفا حليما.
الوقفة الحادية عشرة: حرمة سوء الظن بالمسلم:
شيء آخر، علمتنا هذه القصة أنه يحرم على المؤمنين سوء الظن بإخوانهم، لذلك جاء في بعض الأثر أنه من أساء الظن بأخيه فقد أساء الظن بربه، وشيء آخر في هذا الحديث حديث الإفك الذي قال الله عنه:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
وهو أن من عُرِف بالصلاح لا يُعْدَل بهذه المعرفة عنها إلى ظن السوء لخبر يلقيه إنسان، فمثله كمثل بناء شامخ، هذا البناء لا ينهار بكلمة، لا ينهار إلا بقنابل، بناء من الإسمنت المسلح متين، له أساس، بناء راسخ، سمعة المؤمن غالية على الله سبحانه وتعالى، بناؤه الراسخ لا يهتز بكلمة يقولها إنسان، لذلك فالله سبحانه وتعالى أدبنا في كتابه الكريم فقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾
(سورة الحجرات: الآية 6)
الوقفة الثانية عشرة: الأصل القاذف التكذيب الشرعي:
وحكم آخر يستنبط من هذا الحديث، أن القاذف الذي يلغط بأعراض المؤمنات أو بأعراض المؤمنين مكذبٌ شرعا ما لم يأت بالشهداء الأربعة، فأيّ قاذف يقذف امرأة أو رجلا فهو مكذب شرعا ما لم يأت بالشهود، وعلى أولي الأمر أن يقيموا عليه حد القذف، وهو ثمانون جلدة.
الوقفة الثالثة عشرة: الأصل ستر المؤمن وعدم هتك الأعراض:
شيء آخر يستنبط من هذه القصة وهو الحث على ستر المؤمن، وعدم هتك سره، فمن آداب الإيمان أنك لو رأيت شيئا لا يروق لك فلا ينبغي أن تشيع هذا الخبر، لأن إشاعة هذا الخبر تزلزل بعض الناس، وتضعف الثقة بالمؤمن، فكان من لوازم الإيمان أن تكتم هذا الخبر، وكنت قد حدثتكم بقصة: أن رجلا تزوج امرأة، وبعد أن مضى على دخوله بها خمسة أشهر كبر بطنها، وكانت على وشك الوضع، فما شك أبدا من أنها قد زلت قدمُها قبل أن يقترن بها، فجاءها بمولدّة وولدت، وأخذ هذا الوليد، ودخل إلى أحد المساجد القريبة من بيته بعد أن نوى الإمام صلاة الفجر، ووضع هذا الوليد في زاوية المسجد، وأتم مع الإمام، فلما سمع المصلون صراخ هذا الوليد تحلقوا حوله، فتقدم وكأنه لا علم له بالقصة، فقال: ما هذا، قالوا: تعال انظر، وليد صغير ! فقال: أعطوني إياه، أنا أكفله، فأخذه، ودفعه إلى أمه بعد أن تابت على يديه، وحفظ سرها، هذا الرجل يسكن إلى جوار المسجد، رأى خطيب المسجد في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا له: يا فلان بلغ جارك فلانًا أنه رفيقي في الجنة، فهذا عمل عظيم، إذا كان بالإمكان أن تستر، إذا كان بالإمكان أن يتوب هذا الإنسان على يديك، فليس القصد أن تفضحه، القصد أن تأخذ بيده، القصد أن تعينه على الشيطان، لا أن تعين الشيطان عليه، هذا هو القصد، وقد مر بنا في درس الأحد كيف أن سيدنا عمر حينما جاءه رجل وقال: يا أمير المؤمنين رأيت فلانا وفلانة خلف النخل يتعانقان، فخفقه بالدرة، وقال ما معناه: ماذا فعلت أنت بهذا الخبر، الإسلام لا يحب أن تشيع الفاحشة، لا يحب خبر السوء، لا يحب الفضيحة، أما إذا بلغ الإمام أن فلانا فعل كذا وكذا مما يوجب عليه الحد فلا عفا الله عنه إن عفا.
إذا بلغ الإمام الموكل بإقامة الحد حادثة زنى فلا عفا الله عنه إن عفا، ولكن إذا كان بإمكانك أن تدرأ الحدود بالشبهات، أن تستر، أن تصلح، أن تعين أخاك على الشيطان فافعل.
قال بعض أصحاب رسول الله: من حدث بما أبصرت عيناه، أو بما سمعت أذناه فهو ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا توعدهم الله بعذاب أليم في الدنيا والآخرة.
الوقفة الثالثة عشرة: حرمة سوء الظن بالمسلم: من أشاع فاحشة فعليه النكال:
وهناك حكم آخر استنبط من هذه القصة، هو من أشاع فاحشة فعليه النكال، وإن كان صادقا، وقد سئل أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيدنا الحسن: ما معنى إشاعة الفاحشة ؟ ما حدها ؟ فقال:
((هو الرجل يتكلم عنده في حق رجل فيشتهي ذلك، ولا ينكره ))
يشتهي أن يشيع هذا الخير، وما أعرف معصية يعاقب عليها بالرغبة فقط مثل هذه المعصية،
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾
لم يقل الله عز وجل: إن الذين يشيعون الفاحشة، بل قال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ﴾
فالعقاب على محبتك على أن تشيع الفاحشة.
أيها الإخوة الأكارم، هذه بعض الاستنباطات التي وردت في كتاب الله تحت قوله تعالى:
﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾
وقد يمتحننا الله سبحانه وتعالى بامتحان يمحص الله به المؤمنين من الفساق، والمؤمنين من المنافقين، والآية التي تلي هذه الآية هي قوله تعالى:
﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
(سورة النور)
معاني الآية:
هذه الآيات لها معان متعددة:
المعنى الأول: الخبيث لا يألف إلا خبيثة
من أبرز معانيها: أن الإنسان الطيب الطاهر العفيف المستقيم على أمر الله، الذي عرف ربه، وسمت نفسه، هذا الإنسان لا يمكن أن يأتلف مع امرأة زانية، لا يمكن أن يتعايش معها، لا يمكن أن يحتملها، لا يمكن أن تكون امرأته، لأن الطيبين للطيبات، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أطيب الطيبين فالسيدة عائشة أطيب الطيبات.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
فلو أن الله عز وجل قال:
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾
فلمَ قال بعدها:
﴿وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾
هذا من البلاغة، وهو حصر من جهتين، من باب التأكد أن الخبيث يشتهي خبيثة، وأن المتفلت من قواعد الأخلاق يشتهي المتفلتة، وأن المنحرف يشتهي المنحرفة، وأن الزاني يعجب بالزانية، وأن الطيب يحب الطيبة، وأن الورع يحب الورعة، وأن العفيف يحب العفيفة.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ﴾
فإن أتيح لها أن تختار فلا تختار الخبيثة إلا خبيثا، وإن أتيح للخبيثين أن يختاروا فلا يختارون إلا خبيثة مثلهم، وإن الطيور على أشكالها تقع، وكل إناء ينضح بما فيه، فالخبيثون للخبيثات، والخبيثات للخبيثين، والطيبات للطيبين، الشاب المؤمن الطاهر لا يرضى، ولا يطمح إلا إلى زوجة طاهرة مستقيمة، تحب الله ورسوله، وتتقي الله في كل أمورها، تصلي، هذا الذي يغريه جمال الفتاة، وينسى أن في دينها رقة، هذا سوف يدفع الثمن باهظا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ ذُلاًّ، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ بِهَا إِلاَّ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ، وَيُحَصِّنَ فَرْجَهُ، أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، وَبَارَك لَهَا فِيهِ))
[الطبراني في الأوسط، والترهيب والترغيب عن أنس]
والله الذي لا إله إلا هو ما سمعت من شاب تزوج امرأة، وآثر دينها على أي شيء آخر إلا سعد بها، وما سمعت رجلا تزوج امرأة ضحى بالدين من أجل شيء آخر إلا شقي بها، فعليك بذات الدين تربت يداك، لذلك هذه الآية تفيد كيف أن يحب النبي عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة، وهو أطيب الطيبين ؟ فلابد أن تكون أطيب الطيبات، أيعقل أن تأتلف نفس النبي مع امرأة غير مستقيمة ؟.
أيعقل أن تتعلق نفس النبي بامرأة ليست محبة لله عز وجل ؟ هذه الآية الأخيرة في هذا الحديث ؛ حديث الإفك هي الحقيقة المطلقة.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
عندنا حكم شرعي آخر، هذه الآية لا تمنع أن تستمع إلى قصة مفادها أن هناك امرأة صالحة صائمة مصلية لها زوج سكير عربيد، هذه الآية ساقها الله على شكل خبر، لكن يفيد بها النهي، أيْ: يا عبادي ينبغي أن يكون الطيبون للطيبات، فإذا كانت عندك ابنة شريفة طاهرة عفيفة فلا تفرط فيها، لا تسلمها إلى إنسان لست متأكدا من دينه، ولا من خلقه، الزواج رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته، هذا توجيه.
إن كانت ابنتك طيبة فلا تفرط فيها، وكم في المجتمع من مآس سببها أن الأب استعجل زواج ابنته، فوقع في ندم شديد.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
هذا حكم شرعي، بمعنى أنه يجب، فأولياء الأمور، أولياء الطيبات، أو أولياء الشباب لا ينبغي لعارض من الدنيا إذا جاءنا خاطب عنده بيت، والبيت الآن صعب توافره، أو عنده سيارة، أو عنده معمل، أو عنده محل تجاري، أو دخله كبير، أو أبوه غني، وهو لا يصلي، وهو ليس مستقيما، لا ينبغي أن تفرط بهذه الابنة.
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾
[سورة البقرة: الآية 221]
المعنى الثاني: الكلمات الخبيثات لا ينطق بها إلا الخبيثون:
وثمة معنى آخر لهذه الآية ؛ الكلمات الخبيثات لا ينطق بها إلا الخبيثون، الكلمة الخبيثة، الكذب، المزاح الرخيص، الفحش، البذاءة، الغيبة، النميمة، الخبيثات أي الكلمات الخبيثات لا ينطق بها إلا الخبيثون، هناك انسجام نفس، كلها مياه آسنة، فإذا أخرجت منها الماء ماذا ترى ؟ إذا انحنيت على الحاوية لتأخذ ما فيها ماذا ترى فيها ؟ أترى الذهب والفضة ؟ أترى قطع الماس ؟ أترى فيها باقات الزهور ؟ ماذا ترى فيها ؟ ليس فيها إلا القمامة، والعلب الثمينة لا تنطوي إلا على الحلي الغالية، فالمعنى الثاني الذي جاء في بعض التفاسير بل في معظمها - والمعنى الأول هو أقوى المعاني إن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا مع مثيلاتها، وأن النفوس الطيبة لا تتوافق إلا مع مثيلاتها - لكن المعنى الثاني أن الكلمات الخبيثة ؛ هذا الذي ينطق بطرفة ماجنة أعتقد اعتقادا جازما أن له نفسا ماجنة، وأنه ينطوي على نفس خبيثة، المؤمن الحق لا يطرب لهذا المزاح، لا يضحك له، ينزعج منه، نفسه طاهرة، لذلك الكلمات الخبيثة لا ينطق بها إلا الخبيثون، فالكلمات الخبيثة مثل هذا الافتراء، مثل هذا الترويج، مثل هذه الأكاذيب، مثل هذه الضلالات، مثل كلمة الفحش، مثل الكذب، هذا كله كلمات خبيثة.
المعنى الثالث: الأعمال الخبيثة لا تصدر إلا نفوس خبيثة:
هناك تفسير آخر، الأفعال الخبيثة لا تصدر إلا عن نفوس خبيثة، أن تنظر إلى ما لا يحل لك فهذا فعل خبيث، أن تفعل شيئا فيه مقت لله عز وجل، هذا فعل خبيث لا يصدر إلا عن نفس خبيثة، فأصبحت هذه الآية تعني ثلاثة أشياء ؛ الشيء الأول: أن المرأة الخبيثة لا تتوافق إلا مع خبيث مثلها، شيطان وشيطانة، والثاني: أن الكلمة الخبيثة لا ينطق بها إلا الخبيث، والثالث: أن الأفعال الخبيثة لا تصدر إلا عن الخبيث، وبالمقابل الكلمات الطيبة ؛ كلمات الطهر والعفاف ربنا عز وجل علمنا في كتابه كيف نكني عن بعض المعاني التي تخدش حياء الإنسان فقال:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
[سورة المؤمنون: الآيات 5-7]
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾
هذه كناية لطيفة جدا.
﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾
[سورة النساء: الآية43]
كيف يفهم هذه الكلمة طفل:
﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾
ربنا عز وجل علمنا الأدب، والدين كله أدب، هذا الذي يقول: لا حياء في الدين، هذه كلمة حق أريد بها باطل، يعني لا حياء أن تتعلم أمور دينك، أما أن تسمي الأشياء بأسمائها، وقد تخدش بها حياء الأطفال فهذا ليس من الدين في شيء، النبي عليه الصلاة والسلام كان أشد حياء من العذراء في خدرها، سألته مرة امرأة عن قضية نسائية فوجهها، فلما أرادت أن تستزيد، وكان في هذه الاستزادة إحراج له يروي أصحابه أن لونه تغير، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ:
(( خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ ؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! تَطَهَّرِي، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ ))
[البخاري، مسلم، النسائي ]
وفي رواية أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذُكِرَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ فَأَثْنَتْ عَلَيْهِنَّ، وَقَالَتْ لَهُنَّ مَعْرُوفًا، وَقَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النُّورِ عَمَدْنَ إِلَى حُجَزِ أَوْ حُجُوزِ مَنَاطِقِهِنَّ فَشَقَقْنَهُ، ثُمَّ اتَّخَذْنَ مِنْهُ خُمُرًا، وَأَنَّهَا دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ الطُّهُورِ مِنْ الْمَحِيضِ فَقَالَ:
(( نَعَمْ، لِتَأْخُذْ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَلْتَطَّهَّرْ، ثُمَّ لِتُحْسِنْ الطُّهُورَ، ثُمَّ تَصُبَّ عَلَى رَأْسِهَا، ثُمَّ لِتُلْزِقْ بِشُؤُونِ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَدْلُكْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ طُهُورٌ، ثُمَّ تَصُبَّ عَلَيْهَا مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ تَأْخُذْ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَلْتَطَّهَّرْ بِهَا، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا ؟ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْنِي عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: تَتْبَعُ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ، قَالَ عَفَّانُ: ثُمَّ لِتَصُبَّ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ الْمَاءِ، وَلْتُلْصِقْ شُؤُونَ رَأْسِهَا فَلْتَدْلُكْهُ، قَالَ عَفَّانُ: إِلَى حُجَزٍ أَوْ حُجُوزٍ ))
[أحمد]
فمن علامات المؤمن أنه حيي، كثير الحياء.
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾
فالكلمات الطيبات تشف عن نفوس طيبة، الاعتذار، الأدب، الصدق، الكلمات التي تعبر عن المودة هذه تدل على نفس طيبة كريمة موصولة بالله عز وجل، والكلمات الطيبات لا تصدر إلا عن نفوس طيبة، ولكن الذي يرجح المعنى الأول من أن النفوس الخبيثة لا تلتئم إلا بمثيلاتها.
نهاية هذه الآية:
﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾
أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
مما يقول المنافقون، مما يقول أهل الكفر، مما يرجفون به في المدينة.
﴿أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
يغفر الله لهم، ويرزقهم رزقا كريما.
هذه الآية ينتهي بها حديث الإفك، وهذا الحديث كما قال الله عز وجل فيه خير كثير، وهذا الحديث يجب أن نستنبط منه استنباطات تعلمنا كيف نتعامل مع إخواننا المؤمنين الطاهرين الصادقين، وفي درس قادم إن شاء الله نبدأ بقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
(سورة النور)
هنا الموانع الاحترازية، أو التدابير الاحترازية التي تقي من الزنى كعدم الخلوة وغير ذلك.
والحمد لله رب العالمين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد نوفمبر 05, 2017 8:59 pm من طرف خادم الصالحين
» الحقيقة عدل الراعي في رعيته من أعظم القربات
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:38 pm من طرف خادم الصالحين
» الغضب إياك أن تتخذ قراراً وأنت غاضب
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:36 pm من طرف خادم الصالحين
» ليس بين العبد وربِّه وسيط
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:31 pm من طرف خادم الصالحين
» السعادة الدائمة والسعادة المؤقتة
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:29 pm من طرف خادم الصالحين
» شروط استجابة الدعاء
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:28 pm من طرف خادم الصالحين
» السعادة والشقاء مصدرها القلب
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:24 pm من طرف خادم الصالحين
» أكبر عقاب يصيب الإنسان في الدنيا
الأربعاء نوفمبر 01, 2017 9:21 pm من طرف خادم الصالحين
» لعقيدة الاسلامية - اسماء الله الحسنى - : اسم الله القريب
الأحد أكتوبر 29, 2017 10:16 pm من طرف خادم الصالحين
» شوفو شغلي الجديد
السبت أكتوبر 28, 2017 12:36 am من طرف عقبة